مقدّمة

بقلم: المهندس رفيق غنوم

نقلاً عن كتاب: أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني

محبّة شربل بعيني للأدب المهجري دفعته لتحويل منزله إلى قاعة يكرّم بها، كي لا أقول إلى فندق، يستضيف به العديد من كبار الأدباء والشعراء العرب، الذين كان يدعوهم، باسم رابطة إحياء التراث العربي، لزيارة أستراليا، ولاستلام جائزة جبران الأدبيّة، التي تعب شربل كثيراً من أجل شهرتها، وضحى بوقته وماله بغية توسيع رقعة انتشارها، كيف لا، وهو من صمّم (براءتها)، وأعطاها الزمن الذهبي.
وإن أنسى لا أنسى تلك المكالمة الهاتفيّة التاريخيّة التي دارت بينه وبين شاعر العرب الأكبر المرحوم نزار قبّاني، والتي دامت أكثر من ساعة بين سيدني ولندن. فلقد أخبره، رحمه اللـه، أنه يرفض استلام جائزة جبران التي منحته إياها رابطة إحياء التراث العربي عام (1993)، لأنها أعطيت في نفس الوقت للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري.
وبدلاً من أن يستسلم شربل بعيني لإصرار نزار على الرفض ويقفل الخطّ، خوفاً من دفع فاتورة الهاتف المكلفة جداً، راح يكلّم صديقه بهدوء ومحبّة، ويخبره بأن هناك مفاجأة مخبّأة له خلال الاحتفال، لن يخبره عنها كي لا يفشي السرّ.
وهكذا دواليك، إلى أن تمكّن من إقناعه بإرسال خطاب يلقى في الاحتفال، شرط أن يقرأه شربل نيابة عنه، حسب رغبة نزار.
وكان مدير تحرير جريدة المستقبل الأستاذ أنطونيوس بو رزق حاضراً، يومئذ، في منزل الشاعر بعيني، وقد استمع معي إلى تلك المكالمة النادرة.
وعندما انتهى شربل من مكالمته مع فقيدنا الغالي نزار قبّاني، ارتمى على الكنبة وراح يمسح عرقه ويتنهّد ويقول:
ـ الحمد للـه مرّت على خير.
فسألته بعد أن التقط أنفاسه:
ـ وما هي المفاجأة التي تعدّها لنزار؟.
فتطلّع بي طويلا،ً والهم يجتاح تقاطيع وجهه، وتمتم:
ـ لست أدري.
فما كان من الصديق أنطونيوس بو رزق إلاّ أن قال:
ـ يجب أن تتصرّفوا قبل فوات الأوان..
فالتفت إليه شربل وقال:
ـ إذا أردت مساعدتنا، يا طوني، حضّر أسئلة عرمرميّة كي نرسلها لنزار، وبذلك نضرب عصفورين بحجر واحد. أولاً، تكون أنت أول صحفي مهجري في أستراليا، يجري لقاء مع نزار. وثانياً، نشعره بأهميّة الجائزة، وبأن الإعلام المهجري يهتمّ بها كثيراً.
وكان أنطونيوس بو رزق، في ذلك الوقت، مدير تحرير جريدة العالـم العربي، التي نشرت اللقاء القنبلة في صدر صفحاتها. وقد أعجب نزار بمستوانا الإعلامي في المهجر، وأثنى عليه، وعلى أنطونيوس بو رزق، أكثر من مرّة.
وفي اليوم المحدّد لتوزيع جائزة جبران على مستحقّيها، كنت أول من دخل قاعة بلديّة غرانفيل، لأرى بعينيّ المفاجأة ـ السرّ، التي أعدّها شربل لنزار قبّاني، ووعده بها.
فإذا بالطفلة ريما الياس تطلّ علينا وتصدح بصوتها العذب أغنية خاصّة كتبها شربل احتفاء بيوبيل نزار قبّاني الذهبي، وزيّنها برقصات فتيات صغيرات من معهد سيّدة لبنان في هاريس بارك، جسّدنَ بحضورهنَّ الملائكةَ على الأرض.
كما دمج صوت نزار وهو يلقي أشعاره في ستّ الدنيا بيروت، بأصوات العديد من المطربات والمطربين الذين غنّوا قصائده وخلّدوها.
وقد افتتن المرحوم نزار بمفاجأة (حبيبه) شربل، كما كان يحلو له أن يناديه، فكتب له رسالة بتاريخ (1/12/1993) قال فيها:
"أخي الأستاذ شربل..وصلني (صندوق العجائب) الذي تكرّمت بإرساله إليّ، وفيه براءة جائزة جبران التقديرية، والميدالية، والكأس، والمجلّة.
والحقيقة، أنك بهرتني بكل هذه الهدايا التي وصلتني من أستراليا.. وتذكّرت الزعيم جمال عبد الناصر.. في عبارته المشهورة: (إنتظرناهم من الشرق.. فجاؤوا من الغرب..) والمبدعون العرب، ينتظرون أن يأتي تكريمهم من الصحراء.. ولكنه يأتي من جهة البحر..فالبحر يعرف متى يطرح اللؤلؤ.. والمرجان.. والقصائد الزرقاء.
والبحر هو الذي نقل على أمواجه الحضارات من أثينا، وقرطاج، وصور. والبحر، أخيراً، هو الذي يمنح بلا منّة، ويفيض دونما حساب.
سامحوني إذا لـم أستطع في هذه الرسالة القصيرة أن أردّ لكم بعض جميلكم، فكلمة رئيس رابطة إحياء التراث العربي الأستاذ فؤاد نمّور رائعة في شفافيتها وصدقها، وكلمة ريما الياس الطفوليّة كريستاليّة كدمعة، وقصيدتك الجميلة عنّي، هي تضوّي مثل الذهب، وعندما يكون الحب كبيراً فهو دائماً (يضوّي)..
وأقول لأخي الشاعر نعيم خوري إن الجنيّات هنّ اللواتي لعبنَ بي..(ولست أنا الذي بالجنّ قد لعبا..)إن الرجل يظن نفسه لاعباً.. وهو في الحقيقة ملعوب به.
فشكراً أيّها الحبيب شربل، على سرّك الجميل.. وشكراً لكل الأحبّاء الذين شاركوا في الإحتفال بيوبيلي الذهبي.. راجياً اللـه أن يمنحني القوّة، لأبقى سيف هذه الأمّة، كما كنت وردتها"..
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1988
ولشدّة فرح نزار بمفاجأة شربل، كان يتّصل به أسبوعيّاً، وكنت أنصت، عندما يصادف وجودي هناك، إلى كل كلمة يقولها..
وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت: إن نزار قبّاني كان يشتم الزعماء العرب ألف مرّة في الدقيقة خلال مكالماته الهاتفيّة مع شربل بعيني، ولكم شعرت باليأس الذي يجتاح كل خليّة من خلايا جسمه وعقله، وأدركت للحال لماذا كتب رائعته (متى يعلنون وفاة العرب؟)، التي أقامت الأرض ولـم تقعدها بعد.
وكم من المرّات وعد شربل بالمجيء إلى أستراليا، عندما تتحسّن صحته، ويسمح له طبيبه بالسفر الطويل، وكان يقول له ويلحّ: إذا لـم أتمكّن من السفر.. تعال يا شربل أنت والبطلة ليلى لزيارتي.. أحبّ أن أراكما.. أتسمع؟.
والحقيقة أن شربل وليلى سافرا سراً إلى لندن للقاء نزار، ولكن اللقاء لـم يحصل، إذ أن عقارب الساعة توقفت، عندما توقّف قلب شاعرنا العملاق نزار قبّاني وهما مسافران في الطائرة. وقد بكاه شربل كوالد وكمعلّم وكحبيب، وأصدر عدداً خاصّاً من مجلته ليلى تخليداً لذكراه العطرة. رحمه اللـه، كم كان عظيماً وكم كان متواضعاً.
وفي 31 كانون الثاني 1994، استلـم شربل رسالة جديدة من نزار، يبدي بها إعجابه للمرّة الثانية، باليوبيل الذهبي الذي أعدّه له كمفاجأة.. وفيها يقول:
"أخي الحبيب شربل..
أمطار حبّك وحبّ الأخوة والأخوات في أوستراليا، تساقطت عليّ كالأمطار.
ليلتي أمس كانت مع شريط الفيديو، الذي تكرّمت بإرساله، فشعرت وأنا في لندن الباردة، بنار المحبّة تدفئني، وبنهر من القبلات يغسلني، وشعرت أن لي أهلاً رائعين في سيدني، أستطيع أن أدخل بيوتهم في أي وقت، وأتناول طعام العشاء عندهم في أيّ وقت، وأنام عندهم في أيّ وقت.. هكذا يجعلك الشعر مزروعاً في فضاءات هذا العالـم، ويعطيك مفاتيح كل البيوت، ويجعلك نغمة في إيقاع الكون.
لا تهتم بالناحية التقنيّة للفيديو.. فأنا كنت مهتماً بفيديو القلب.. وبتلك العصافير التي كانت تطير على المسرح.. وهي تحتضن كتابي قالت لي السمراء.. وتزقزق كما لـم تزقزق طيور الجنّة من قبل.
أما أنت، فقد قرأت كلمتي أحسن منّي، وكنت (بشبوبيتك) وأناقتك، ووسامتك.. نجم الحفلة..
لقد أعجبني جداً شريط الكاسيت الذي أعدّته السيّدة ماري ميسي للإذاعة الحكوميّة S.B.S
كانت السيّدة ماري ميسي تتحدّث بلغة حلوة، وبهدوء وشاعريّة، وكان إخراج الشريط وتنوّعه ولقطاته بمنتهى الجمال. فأرجو أن تنقل إليها أطيب مشاعر الشكر والتقدير.
وأخيراً، أشكرك على قصيدتك الرقيقة جداً، والشفّافة جداً، والعاشقة جداً، التي كرّمتني بها، وأدّتها الغالية ريما الياس. فلها ولرفيقاتها العزيزات قبلات الشعر، وقبلاتي.
لقد كنتم جميعاً رائعين.. في حبّكم.. ورائعين في كلماتكم.. فسامحوني إن لـم أكن على مستوى حبّكم العظيـم"..
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998ـ
وصدّقوني أن شربل بعيني كان محظوظاً جداً لحلول يوبيل نزار الذهبي في نفس السنة التي منحته بها رابطة إحياء التراث العربي جائزة جبران العالميّة، وإلاّ، لكان عليه أن يفتّش عن مخرج جديد يمكّنه من الوفاء بوعد قطعه على نفسه.
من هنا نقدر أن نستنتج سرعة البديهة التي يتحلّى بها شربل، وأنه لا يستسلـم للمصاعب بسهولة. ومن هنا أيضاً نقدر أن نعرف سرّ تفوقّه على الآخرين، وسرّ امتلاكه لزمام الأمور، وسرّ تغلّبه الدائـم على كل من يهاجمه.
إنه بصريح العبارة يخطط للفشل كما يخطط للنجاح.. ولهذا بقي ناجحاً كل هذه المدّة، وبقي حسّاده يلهثون للتعلّق بأطراف ثوبه، ولو لثوانٍ معدودة، دون جدوى.
وكما ذكرت سابقاً، لقد تمنّى شاعرنا الأكبر نزار قبّاني زيارة أستراليا، والنزول ضيفاً عند صديقه شربل بعيني، ولكن الطبيب منعه من تنفيذ رغبته التي لمّح لها في إحدى رسائله لشربل بعيني، حين قال: "وشعرت أن لي أهلاً رائعين في سيدني، أستطيع أن أدخل بيوتهم في أيّ وقت، وأتناول طعام العشاء عندهم في أيّ وقت، وأنام عندهم في أي وقت”..
وكانت أمنية شربل الكبرى أن يستضيف نزار قبّاني في منزله، كما استضاف من قبل العديد من عمالقة الأدب العربي.. ولكن الرياح تجري، دائماً وأبداً، بما لا تشتهي السفن.
وعندما أصدر شربل بعيني مجلّة ليلى، كان نزار أوّل من استلمها، وقد بقي يستلمها حتى وافته المنيّة. وبما أنه يدرك مدى أهميّة الإعلام الأدبي في المهجر، رحّب بصدور ليلى برسالة أرسلها لشربل في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني 1995، وإليكم ما جاء فيها:
"أخي الغالي شربل..
بريدك هذا الأسبوع يشبه شهر نيسان، أريجاً، وخصوبة، ورائحة طيّبة.
أفرحتني أوّلاً مجلّتك ليلى، لأن إصدار مجلّة عربيّة في أوستراليا عمل رائد وتأسيسي، ويبقي الجسور ممدودة بين المغتربين العرب، وبين لغتهم الأم، وتاريخهم، وتراثهم.
كما أسعدني أن ترسل لي نسخة من امتحانات اللغة العربيّة في أوستراليا. ما أسعد الشاعر حين يرى شعره يمرّ من قارة إلى قارة.. ويحمله التلاميذ في محافظهم المدرسيّة.
شكراً على إعادة نشر قصيدتي (المهرولون) في مجلّتك، والواقع أن هذه القصيدة اشتعلت كبيدر من القشّ في كل مكان.. وتحوّلت إلى منشورات سريّة تنتقل من يد إلى يد.. كما تهرّب حشيشة الكيف!! وهذا دليل على أن الناس يبحثون في الشعر عن خلاصهم، ويعتبرونه مسيحهم المنتظر..وحين تستطيع قصيدة أن تخضّ عظام الأمّة العربيّة ـ كما تقول في رسالتك ـ فهذا دليل على أن ضمير هذه الأمّة لا يزال سليماً ومعافى.. وجسدها لـم يتحوّل إلى كوم رماد.. المهم أن يبقى شعراؤنا واقفين على الخطوط الأمامية.. حتى لا يسقط الوطن تحت حوافر المغول.
أرجو لك ولزوجتك العزيزة مشواراً ظافراً على طريق الصحافة، مع أطيب تمنيّاتي لكما بالسعادة والنصر الكبير".
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998 ـ
عام 1986، سألته الصحفيّة هدى الصبّاغ في حديث نشرته جريدة البيرق في عددها الرابع: من هو مثل شربل بعيني الأعلى في الحياة؟
وبدون أدنى تردّد أجابها: إجتماعيّاً والدي. أدبيّاً نزار قبّاني.. لأنني أعتبره أول من ثار على الشعر ثورة قوية، وجعل الناس تحب الشعر أكثر.
لقد أنزل نزار الشعر من أبراجه العاجيّة، وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء.. لذلك أعتبره قدوتي من الناحية الأدبية.
إذن، حبّ شربل بعيني لنزار قبّاني حبّ أعمى، نما في قلبه منذ لقائه الأوّل به عام 1968، يوم ذهب إلى بيروت برفقة أخيه جوزاف لتقديم نسخة من ديوانه البكر مراهقة لمعلّمه نزار.
كان عمره، آنذاك، سبع عشرة سنة، وكان نزار في أوج مجده الشعري. ومع ذلك استلم النسخة من يد شربل، وراح يتصفّحها، وبعد دقائق، التفت إلى شربل وقال:
ـ أنت شاعر يا شربل، ولكنك تكتب باللغة العاميّة اللبنانية، التي لا يفهمها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. دعك من لغة سعيد عقل، فسعيد عقل سيتخلّى عنها قريباً، وسيعود للكتابة باللغة العربيّة الفصحى، التي يقرأها أكثر من مائة مليون نسمة. عليك يا صديقي أن تتوجّه للكثرة لا للقلّة.
فما كان من شربل إلاّ أن جاوبه:ـ طالما أنني عاجز عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده دون منازع، سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العاميّة. فأعجب نزار بجوابه، ودعاه لتناول الغداء معه.
حفظت هذه القصّة عندما راح شربل بعيني يذكّر صديقه نزار بها على الهاتف، ونزار يتمتم: لـم أعد أذكر يا شربل.. لندن أنستني الكثير من قصصي البيروتيّة.
العلاقة الأدبيّة والشخصيّة بين شربل ونزار متّنتها السنون، وألهبتها الإتصالات الهاتفيّة والرسائل. لذلك لـم يفكّر بالنتائج السلبيّة حين دافع عن صديقه نزار، وها أنا أنشر دفاعاً واحداً، كتبه شربل كإفتتاحيّة لمجلّة ليلى، رداً على أحد الذين انتقدوا نزار قبّاني في اجتماع ضمّ العديد من أدباء وشعراء المهجر. ولكن المضحك في الأمر أن نزار قبّاني رفض رفضاً باتاً أن ينشر شربل مقاله هذا، بعدما سمعه منه على الهاتف، وحجّته الوحيدة أن نقّاد أستراليا لا يهمّونه، كما يهمّه نقّاد أوروبا والدول العربية.. كما أنّه يريد من شربل، صاحب اللسان السليط والحجة الدامغة، على حدّ تعبيره، أن لا يضيّع وقته في ثرثرات أناس فارغين، ستغرق حتماً في الباسيفيك، قبل أن تصل إليه، أو تؤثّر عليه.
وإليكم ما كتب شربل:
"في اجتماع (أدبي) ضمّ العديد من الأدباء والمثقفين والدكاترة، تكلّم أحد المتأدبّين عن الشعر العربي فقال: بعد أمير الشعراء أحمد شوقي خلت الساحة العربيّة من الشعراء.
فقاطعه أحد الموجودين قائلاً: هناك نزار قبّاني، أنسيته؟!
فأجاب حضرة المتأدّب: لا.. ولكن نزار قبّاني شاعر داعر.
هكذا واللـه!! دون زيادة أو نقصان!!..حبيب الشعب من الماء إلى الماء شاعر داعر!!
فما رأيكم دام فضلكم؟!
هل يصحّ أن يتفوّه رجل ثرثار كهذا بمثل ما تفوّه في مجتمع أدبي راقٍ، دون أن يرموه بالبيض والفجل والبصل.. والصرامي؟.
نزار قبّاني شاعر داعر!.. أي أنه مارس الدعارة، حسب ادعاء ذلك المعتوه الذي لا أحبّ أن أذكر اسمه، ولا الشعر يحب أن يذكر اسمه، حتى ولا اللـه تعالى يحب أن يذكر اسمه.. لماذا؟.. لأنه تجنّى على شاعر كبير لـم ولن تلد الأمهات نظيراً له، لا من الناحية (الآدمية)، ولا من الناحية الشعرية.. وبئس من يقول العكس، لأنه ابن الشيطان يدعى.
نزار قبّاني لـم يؤذِ برغشة، ولـم يتجنَّ على أحد.. فلماذا يتجنّون عليه كل ما دقّ الكوز بالجرّة؟!.. ألأنه تغنى بالمرأة العربيّة وطالب بحريّتها؟.. أم لأنه لـم يهتم إلاّ بإنقاذ أمته العربية من براثن الجهل والفاقة؟.. والويل ثـم الويل لمن يفكّر بسعادة 100 مليون عربي تعيس، فالأمـم المتحدة ضده، والجامعة العربية ضده، والإعلام العربي ضده، وكلاب الحكّام العرب ضده.. فهل من بهدلة ألعن من هذه؟!
من يريد أن يتهجّم على نزار عليه أن يكون أكبر من نزار، فهل يوجد بيننا من هو أكبر من نزار؟.. أعوذ باللـه".
ولكن نزار قبّاني لـم يوقف شربل عند حدّه، ولـم يطلب منه أن لا ينشر، عندما اتّهم بسرقة قصيدة (مع جريدة) من أحد الشعراء الفرنسيين. بل أطلق له العنان، وهو الواثق من مقدرته بعد الذي سمعه من قبل. لذلك استقتل شربل بالدفاع عن نزار، ولـم يكتفِ بشهر سلاحه لوحده، بل استنجد بعمّه، والد زوجته، الأستاذ الجامعي عصمت الأيّوبي، صاحب كتاب على ضفاف الكارثة، الذي غيّبه أيضاً المسح الطوبوغرافي السيىء في هذه الجالية، وراح الإثنان يشنان الهجوم تلو الهجوم إلى أن رفعا راية النصر. ففرح نزار بسير المعارك الأدبيّة، وكتب لحبيبه شربل رسالة مؤرخة في الخامس من شهر كانون الثاني 1996، يقول فيها:
"يا شربل الحبيب..
ما هذا الشريط الخرافيّ الذي بعثت به إليّ؟.. لقد دوّختني.
فعمّك الدكتور عصمت الأيّوبي يمطر من الشرق، وأنت تبرق.. وترعد.. من الغرب.. وأنا تحت أمطار حبّكما بلا مظلّة..
هل يمكن أن يأتي الربيع كلّه من أستراليا.. بلا موعد سابق؟
هل يمكن أن أنام ليلة كاملة على وسادة من الياسمين.. وأصحو على صوت العصافير.. وأغتسل بماء العشق؟..
إنني أعرف أبعاد حبّك النزاري، ونوبات جنونك الجميل، ولكنني لـم أكن أتصوّر أن عمّك دخل في الحزب.. أيضاً.. وصار يضارب عليك في الإيديولوجيا النزارية.. إن حديثه فاجأني برقّته، وحضارته، وثقافته، وجذوره الشعريّة، ومنطقه المتماسك.
أمّا أنت.. فقد كنت كديك القرية تمارس فحولتك على آخرها.. وتفقأ عين الدجاج الناقد.. وتنتف ريشه.. حتى سقط مضرّجاً بدم أحقاده..
الواقع إن القصّة كلّها سخيفة، وجاهلة، ومتخلّفة ثقافياً.. ولكن ماذا تفعل إذا كانت (ثقافة زيت الكاز) تحاول أن تشتري كلّ شيء.. بما في ذلك كبرياء أبي الطيّب المتنبي..
ولكن أبا الطيّب المتنبي.. لا يمكن أن يباع في السوبر ماركت.. ولا يمكن لكلماته أن تتحوّل إلى جوارٍ في سرير أمير المؤمنين..
فشكراً للدكتور عصمت على شهادته الثـمينة، وشكراً لك أيّها الديك الرائع الذي ملأ الدنيا، وخوّف قارة بأكملها بشجاعته وفتكه ومروءته".
ـ مجلة ليلى ـ العدد 33 ـ تموز 1998 ـ
وأعتقد أن نزار قبّاني قد هاجم في رسالته هذه جميع الذين تهجّموا على صديقه شربل بعيني قبل أن يتهجّموا.. وفقأ أعين دجاجهم أيضاً.. وفضح أولئك الذين يبيعون أدبهم في السوبر ماركت.. أصحاب الكلمات السخيفة، الجاهلة، والمتخلّفة ثقافياً.
شربل بعيني.. ديك نزار قبّاني الرائع.. هذا الذي ملأ الدنيا، وخوّف قارّة بأكملها بشجاعته وفتكه ومروءته.. هو ذاته الذي قال عنه الأديب الرئيس جوزيف حايك: "إن كبير أدباء موطن الأرز الأستاذ شربل بعيني قد فتح صفحات التاريخ، وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى على فـم الأنبياء، الذين حنوا الجبين أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة"..
رحم اللـه نزار قبّاني.. فلقد سلّح صديقه شربل بعيني، قبيل وفاته، بعبارات مسنونة كالسيف، وكأنه يعلم أن دجاج الغربة لا بد من أن يتطاول على ديكه الرائع.
**